
رؤية شرعية واقتصادية لفرض جباية الزكاة واستثمارها وتوزيعها
مقدمة
الزكاة، باعتبارها ركنًا ركينًا من أركان الإسلام، ليست مجرد عبادة فردية، بل نظامٌ ماليٌّ واجتماعيٌّ متكامل، وُضِع لتحقيق العدالة الاقتصادية والتكافل الاجتماعي. وفي ظل تعقّد النظم الاقتصادية الحديثة، وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أصبح من الضروري أن تتولى الدولة مسؤولية جباية الزكاة وإدارتها وفق آليات حديثة تضمن شفافيتها وفعاليتها. غير أن هذا الأمر يتطلب منظومةً متكاملةً قائمةً على أسسٍ تشريعية، وهيكليةٍ إداريةٍ متطورة، وسياساتٍ استثماريةٍ رشيدة، تُمكِّن من تحقيق المقاصد الشرعية للزكاة بأفضل السبل. أولًا: الإطار التشريعي لفرض الزكاة لا يمكن للدولة فرض نظام فعال لجباية الزكاة دون تأطيره قانونيًا، بما يضمن إلزاميته وعدالته. ولتحقيق ذلك، ينبغي اتباع الخطوات التالية:
1. إصدار تشريع مُلزِم يجعل الزكاة واجبًا قانونيًا على الأفراد والشركات، كما هو الحال في الضرائب، مع مراعاة الفروق الجوهرية بينهما.
2. تحديد الجهات المخوّلة بالتحصيل، بحيث يُناط الأمر بهيئةٍ مستقلةٍ أو بوزارة المالية أو الشؤون الإسلامية، على أن تتمتع هذه الجهة بالسلطات الكاملة في الجباية والرقابة.
3. وضع معايير واضحة لتحديد نصاب الزكاة وفقًا لأحكام الشريعة، وبما يتناسب مع تطور الأنشطة الاقتصادية الحديثة، كالتجارة الإلكترونية، والأسواق المالية، والاستثمارات العقارية.
4. سنّ عقوبات رادعة ضد المتهرّبين من دفع الزكاة، مع تحفيز الامتثال الطوعي عبر حوافز ضريبية أو امتيازات اقتصادية للمؤسسات الملتزمة.
ثانيًا: بناء منظومة إدارية فعالة لجباية الزكاة يتطلب تحصيل الزكاة بنجاح جهازًا إداريًا كفؤًا، يتميز بالقدرة على جمع الأموال بفعالية وعدالة، عبر الوسائل التالية:
1. إنشاء هيئة وطنية للزكاة ذات استقلالية مالية وإدارية، تُعنى بجمع وتوزيع أموال الزكاة وفق سياسات واضحة ومدروسة.
2. التحصيل الإلكتروني عبر منصات دفع رقمية، تُتيح للمكلّفين أداء زكاتهم بسهولة، مع ربطها بالحسابات المصرفية لضمان التحصيل الآلي من مصادر الدخل المختلفة.
3. إدماج الذكاء الاصطناعي في عمليات التقييم والمراقبة، بحيث يمكن تحليل البيانات المالية بدقة لتحديد الملزمين بالزكاة، وتقييم التزامهم، والكشف عن أي محاولات للتهرب.
4. إشراك المؤسسات المالية الإسلامية، مثل البنوك وشركات التأمين التكافلي، في عملية تحصيل الزكاة عبر حسابات خاصة تضمن وصول الأموال إلى مستحقيها دون تأخير أو تلاعب.
ثالثًا: استثمار أموال الزكاة لتحقيق الاستدامة المالية تعدّ استدامة موارد الزكاة من أبرز التحديات التي تواجه الدول في إدارتها لهذا المورد المالي، ولذلك فإن استثمار أموال الزكاة بشكل مدروس يُعدّ ضرورةً حتمية. ويمكن تحقيق ذلك عبر ما يلي:
1. إنشاء صناديق وقفية استثمارية تُموَّل من أموال الزكاة، بحيث تُدرّ أرباحًا مستدامة تضمن استمرار الدعم للفئات المستحقة، بدلًا من توزيع الأموال ثم نفادها.
2. الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والإسكان، بحيث يُوجَّه جزء من أموال الزكاة لإنشاء مدارس ومستشفيات ومساكن للفقراء، تعود بالنفع المستدام على المجتمع.
3. تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر تقديم قروض حسنة للمحتاجين، مما يمكنهم من إقامة أعمال تحقق لهم الاكتفاء الذاتي، عوضًا عن الاعتماد المستمر على المعونات المباشرة.
4. تطوير الشراكات مع القطاع الخاص لإنشاء مشروعات وقفية إنتاجية، تساهم في تشغيل الأيدي العاملة، وتوفير موارد مالية دائمة للفقراء والمحتاجين.
رابعًا: آليات توزيع الزكاة بفاعلية وعدالة لا يتحقق المقصد الشرعي للزكاة إلا إذا وصلت إلى مستحقيها بطريقة عادلة وفعالة. ولضمان ذلك، ينبغي اتباع الآليات التالية:
1. إنشاء قاعدة بيانات وطنية للفقراء والمحتاجين، تعتمد على معايير دقيقة لتحديد المستفيدين وفق مستويات الدخل، وعدد أفراد الأسرة، والاحتياجات الأساسية.
2. إصدار بطاقات ذكية للمستفيدين، تُستخدم في شراء الاحتياجات الأساسية من متاجر معتمدة، بدلًا من توزيع الأموال نقدًا، مما يقلل من احتمالات الإسراف أو إساءة الاستخدام.
3. تبني سياسات “التمكين الاقتصادي”، بحيث يُمنح الفقراء أدوات الإنتاج وفرص العمل، بدلًا من تقديم المساعدات المالية فقط، مما يضمن خروجهم التدريجي من دائرة الفقر.
4. التوزيع وفق الأولويات الشرعية، بحيث تُوجَّه أموال الزكاة أولًا للفئات الأكثر احتياجًا، ثم تُستخدم في تحسين البنية الاقتصادية والاجتماعية العامة للمجتمع.
خامسًا: تعزيز الشفافية والرقابة لضمان نزاهة النظام الزكوي لضمان نجاح أي نظام زكوي، يجب أن يكون محكمًا من حيث الشفافية والمراقبة، وذلك عبر:
1. نشر تقارير دورية مفصلة حول حجم أموال الزكاة المحصّلة، وأوجه إنفاقها، والمشاريع الممولة منها.
2. إطلاق منصات رقمية تفاعلية، تتيح للمتبرعين تتبع كيفية صرف زكاتهم، مما يعزز الثقة في النظام.
3. تفعيل دور الهيئات الرقابية الشرعية والمالية، لضمان الالتزام التام بأحكام الشريعة، ومنع أي تلاعب أو فساد إداري.
4. إشراك المجتمع المدني والمؤسسات الدينية في مراقبة أداء هيئة الزكاة، بما يضمن الشفافية والمساءلة.
خاتمة:
نحو نموذج زكوي عصري ومستدام إن فرض الدولة لنظام حديث لجباية الزكاة واستثمارها وتوزيعها ليس مجرد خيار، بل هو ضرورةٌ لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتقليص الفجوة بين الفئات الاقتصادية، وتعزيز التكافل بين أفراد المجتمع. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال منظومة متكاملة تجمع بين التشريع المحكم، والإدارة الفعالة، والتقنيات الحديثة، والاستثمارات المستدامة. إن الزكاة ليست مجرد التزام ديني، بل هي أداة اقتصادية قوية، قادرة على إحداث تحولات جوهرية في المجتمعات الإسلامية، إذا ما أُحسن إدارتها واستثمارها. فالدولة التي تتبنى نظامًا زكويًا رشيدًا، وتستثمره في نهضتها الاجتماعية والاقتصادية، تكون قد جمعت بين الامتثال الشرعي والابتكار الإداري، فحققت لمجتمعها الأمن الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، كما أراد الله لها أن تكون.